السبت، نوفمبر 05، 2011

أبنة الساحل تتحدث عن ذكرياتها عن الشبيحة وساداتهم لكن بلون الخوف !!!


(إلى مدينتي اللاذقية: أيّ قدر وسمَك بكلّ هذه الذاكرة!!)

حين أتى "أبو رمّاح" إلى حارتنا في مدينة اللاذقية كانت تبدو سيماء (التّشبيح) عليه: رأس محلوق ولحية طويلة غير مشذبة وكرش ولباس مموّه!. كنا في أواخر الثمانينيات وقتذاك، وكانت الأيام تبدو كأنها قطعة منسية من فيلم تراجيدي قديم بالأسود والأبيض.
بدأ بإخراج كراسيه إلى الحارة واستقبال ضيوفه هناك، وبالتالي كان يعلّق ساخراً على الرائح والغادي أياً كان. ولطالما سخر مني وأنا أنوء بثقل أكياس السكر والرز قادمة من طابور طويل أمام المؤسسة الاستهلاكية. ثم صار يصفّ سياراته في الحارة، ومن بعد غرز ثلاثة قضبان حديدية ثخينة على باب الحارة وبينها سلاسل معدنية فأغلق الحارة تماماً! ولم يجرؤ أحد حتى اليوم على سؤاله: "من أين أتيت بهذا الحق؟".. مع الزمن صار اسم الحارة "حارة أبو رمّاح"، حتى نحن كنّا ندلّ رفاقنا على بيتنا: "في البناية الملاصقة لحارة أبو رمّاح.. عرفتها؟!".. مع مرور الوقت كذلك زرع "أبو رمّاح" نباتاته في الحارة ونصب شادراً دائماً ومراجيح لأطفاله، فقد صارت الحارة حقاً مكتسباً له، كما صار البلد حقاً مكتسباً للشبّيحة أمثاله وأسيادهم.
أعتقد أن سنوات الثمانينيات وأوائل التسعينيات تلحّ على الكثيرين من أبناء مدينتي اللاذقية، كما تلحّ عليّ في الآونة الأخيرة، ربما لأن الكثير مما يحدث اليوم شبيه إلى حدّ بعيد بما حصل في ذلك الوقت: الخوف، الترقب، الحذر.. والشبيحة.
الشبيحة كانوا مرافقين لطفولتي ومراهقتي، ولسوء الحظ كانت المنطقة التي نسكن فيها مليئة ببنايات يتراكم الشبيحة أمام بواباتها ليل نهار. لم أفهم البتة، كما لا أفهم اليوم، ما السبب الكامن وراء كل تلك الغطرسة والكبرياء و"الاستفشار" الذي ينثال منهم، والذي لا يجاهدون لإخفاءه أمام أي شخص كبر أم صغر. ولطالما رأيت رجالاً محترمين يمرّون من أمامهم، وهم يحتلون رصيفاً ما، مطرقين إلى الأرض ومهرولين خوفاً، وإن سمعوا بآذانهم شتائم أو عبارات ساخرة منهم سيتظاهرون بأنهم لم يسمعوها.
سيبدو طبيعياً للغاية أن نرى مجموعة منهم يتسابقون بسياراتهم في شوارع المدينة الضيقة وبأقصى سرعة، يروّعون الناس بإطلاق النار في الهواء. في أوائل التسعينيات مثلاً حدثت حرب في شارع 8 آذار، وهو من أكبر شوارع المدينة، لأن شبيحة "بيت مخلوف" وشبيحة "بيت ديب" اختلفوا وراحوا يطلقون النار على بعضهم. قتل رجلان وامرأة كان القدر الظالم قد جعلهم يمرون هناك في ذلك الوقت، ومرّت الحادثة كأنها لم تمرّ!!
كان من الطبيعي أيضاً أن يُعجب أحد الشبيحة بسيارة جديدة لأحد شباب المدينة، فيلحقون بها وينزلونه منها ثم يأخذونها تاركينه مذهولاً ومرعوباً في وسط الشارع. أو يعجب أحدهم أيضاً بفتاة جميلة فيختطفها إن لم تقبل الخروج معه من تلقاء نفسها، وحدث ولا حرج عن بيوت دوهمت واختطف من فيها، وما إلى ذلك من حكايات تكاد تقارب الخيال لكنها واقع حقيقي تشهد عليه ذاكرة (اللوادقة) حتى اليوم.
أستاذي في الجامعة "سمير غفر" قتل في أوائل التسعينيات وهو واقف على موقف الباص، مع ثلاثة رجال وامرأة حامل، لأن هناك سيارة مسعورة لم يستطع سائقها التحكم بها، ولم يعاقب ذلك السائق/ الشبّيح بالتأكيد. كنا لا نجرؤ على الحديث عنه خوفاً من "الجدران التي لها آذان" على الرغم من أن أحاديث مرعبة عن رأسه التي فصلت عن جسده كانت تتطاير هنا وهناك. صديقي في الجامعة "حسان الأعسر" قتل أيضاً لأنه دافع عن فتاة التجأت إليه في باص الدولة، وكان عدد من الشباب/ الشبيحة يطاردونها. هو الآخر غيّبناه عن أحاديثنا خوفاً لكن صورة السكين التي انغرزت في كتفه ووصلت القلب لم تغادر ذاكرتي.. والد حسان غادر البلاد بعد تلك الحادثة من غير رجعة. أما "هالة العاقل" فاسم مازالت اللاذقية تهرج بقصته، وهي فتاة اختطفها الشبّيحة واغتصبوها، ثم ألقوها عارية ومقتولة أمام باب بيت أهلها.
كان يمكن لأي معاون باص أن يهين أي راكب دون أن يستطيع الأخير "الخائف" الرد لأن المعاون من الشبيحة، وكان يمكن لأي جاهل أن يروّع حياً بأكمله دون أن يجرؤ أحد على الرد لأنه (منهم).
الشبيحة وسادتهم كانوا القانون والدولة، وهم الزعماء وهم "الفصل والحكم".
أرى الشبيحة اليوم ينتشرون من جديد في شوارع المدن السورية، وليس في شوارع مدينتي فحسب، يشيعون الرعب أينما حلوا وكأنهم استيقظوا من سباتهم، لكن هذه المرة وجدوا لأنفسهم وظيفة جديدة، شكروا ربهم عليها، وهي ضرب المتظاهرين وتخويف المعارضين والناشطين وتفريغ تلك الشحنة الطاغية بداخلهم، خصوصاً وأنهم صاروا يُلبسون المهمة غايات وطنية، بما أنهم وأسيادهم يحتكرون المواطنة والوطن.
اليوم هناك الآلاف من "أبو رماح" يصولون ويجولون، وفي الكثير من المناطق السورية لم يحتج رجال الأمن أو الجيش للتدخل في قمع المظاهرات فقد قام الشبيحة بالواجب من كل قلبهم.
ما يحدث اليوم ليس بجديد أبداً!! إنه نتاج سنوات طويلة مضت من التراكم، ولأنه كذلك فهو يحتاج إلى فضح وتهديم تلك الذاكرة المتجذرة فينا: ذاكرة الخوف.

(ملاحظة: كنت قد كتبت قبلاً عن "أبو رمّاح" باسم مغاير مخافة أن يصل إليه الأمر بطريقة ما، تستطيعون بالتالي أن تتخيلوا إلى أين وصل فينا تراكم الخوف!!)



--
 مع أطيب تحيات
 
             
 

ليست هناك تعليقات: