السبت، أكتوبر 29، 2011

الوثنية السياسية 1

عبد البشر الكثير من الأشياء، كالشّمس والقمر والنّجوم والنّباتات والنّار والأنهار والحيوانات....إلخ، حتّى أنّ بعضهم عبد أشياء يترفّع الباحثون عن ذكرها، ووصلت الأمور إلى أن يصنع البشر أصناماً يعبدونها، وقد يأكلونها أيضاً، كتلك التي صنعت من التّمر، وصنع الإنسان تماثيل ورموز عبدها وتقرّب إليها وطلب منها أن تحميه وترزقه وتقضي له حوائجه، ولذلك كانت مهمّة الانبياء والرّسل شاقّة ومتعبة مع من يعبدون تلك الأشياء، وخاض الرّسول- صلى الله عليه وسلم- والمسلمون جولات كثيرة مع عبدة الأصنام حتّى يحرّروهم من عبادة ما صنعوه بأيديهم.

قامت الأديان لتحارب "الوثنية العقائديّة" وحقّقت إنجازات كبيرة، ويرى بعض الباحثين أنّ بعض الفرق الدّينيّة انحرفت وتأثّرت ب"الوثنية العقائديّة" وشوهت جوهر الاعتقاد عندها بتوثين البشر وتقديسهم وادّعاء عصمتهم، ولكن لا يزال الكثير من البشر يعبدون الأصنام حتّى اليوم، أمّا البعض الآخر من البشر فقد توجّه لوثنيّة من نوع جديد، نستطيع تسميتها بـ"الوثنيّة السّياسيّة" التي يخلطونها بالوثنيّة العقائديّة أحياناً أخرى، وعند محاولة تصنيف تلك الحالة بالمقارنة مع التاريخ الدّيني والسّياسي القديم، فمن الممكن اكتشاف الكثير من الحالات المتشابهة بين الماضي والحاضر، وتعتبر "الوثنيّة الفرعونيّة" من أقرب الحالات الّتي تشبه ما يطلق عليه "الوثنيّة السياسيّة".

فقد رأى بعض البشر أنّ الكثير من النّاس يعبدون الأصنام والظّواهر الطّبيعيّة، ولذلك بدأوا بالتّسلّط على العامّة والرّعاع إمّا من خلال تعبيدهم لتلك الأشياء، وبالتّالي يستمدّون شرعية حكمهم وتسلّطهم على رقابهم من خلال ذلك التّعبيد، فيما رأى آخرون- كالفراعنة- أن يعبّدوا البشر لذاتهم بدلاً من تعبيدهم لأشياء أخرى، وكان لهؤلاء جنّتهم ونارهم، ومنحهم ومنعهم، واعتقدوا أنّ من يعبد صنماً لا يتكلّم ولا يتحرّك سيعبد صنماً يتكلّم ويعطي ويقتل ويسجن ويعاقب ويكافئ، وهكذا كان.

الحكام المستبدّون في العصر الحديث حرصوا على صناعة الوثنيّة السّياسيّة ومأسستها، فقاموا بالعديد من الخطوات في سبيل ذلك، فقاموا بتأسيس أحزاب خاصّة بهم تقولب عقول النّاس لتقبّل كل ما يصدر عن الزّعيم الملهم الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا ينطق عن الهوى، هزائمه تقلب لانتصارات، وجبنه لشجاعة، وحتّى في علاقته مع مريديه والعامّة فهو يلقي وهم يستمعون، ولا سبيل للنّقاش مع الكلمات النّافذة للوثن البشري، فالأتباع ليس مطلوباً منهم التّفكير والنّقاش، بل المطلوب هو السّماع والتّنفيذ فقط، بل تقوم تلك الأحزاب والمؤسّسات بعملية صناعة الوثن عبر وسائل إعلام مهمّتها تضليل النّاس وحصر تفكيرهم في تقبّل وانتظار كل ما يصدر عن الوثن المتكلّم.

ففي كوريا الشّمالية يوجد في كل بيت سمّاعة لإذاعة التّوجيهات الصّباحية للوثن المتكلم، وفي ليبيا كان لا كلام فيها فوق كلام القذافي وكتابه الأخضر، وفي غيرهما لا كلام بعد كلام الرّئيس والملك الّذي يدرك ما لا يدرك، ويعرف ما لا يعرف، أمّا في مصر فكان فيها الحكيم الفهيم ذو العقل الكبير الّذي يفقه ما لا يفقهه عامّة النّاس، فالمصريون كانوا محظوظين برئيس يقود وينصح العالم، بل يأتي الرّؤساء إلى شرم الشّيخ حتّى يوجّههم بإصبعه المشهور وحكمته البالغة وإحاطته الشّاملة..

أمّا بقيّة الدّول الاستبداديّة، فإرادة ملوكها ورؤسائها أصحاب الجلاله والسّيادة والعطوفة والنّيافة نافذة بلا نقاش ولا امتعاض، فهم أولياء الأمور ومنهم من تقهر إرادته إرادة شعبه، فلا انتخابات ولا خيارات شعبية ممكن أن تكون نداً لتلك الإرادة الإلهيه التي يوصف بها المستبد الّذي لا يخطئ أبداً، تحوطه العصمة من بين يديه ومن خلفه، وإن أراد فلا يملك الشّعب إلا أن ينفّذ وإلا فالويل والعذاب، فالله سمح للبشر إمّا بالايمان أو الكفر به، ولكن الوثن البشري لا مكان عنده إلا للمؤمنين به.

ولتعزيز الوثنيّة السّياسيّة تقوم مؤسّسات الدّعاية بطباعة صور الوثن البشري وخلفها زرقة السّماء وبياض الغيوم، يوصف بالجبال الرّاسخة الشّامخة والنّسور والصّقور المحلّقة في عنان السّماء والأسود والفهود الكاسرة المفترسة، في إشارة واضحة على امتلاكه لوسائل القهر والحسم ضدّ خصومه. تصنع له الأصنام، في ميل واضح نحو الوثنيّة البدائيّة، فصورة الوثن يجب أن تكون في كل بيت وفي كل مؤسّسة وكل سيارة وحتّى في ساعة اليد، وفي مكان العمل والمدرسة والجامعة والمناهج الدّراسيّة وفي الطّرقات، وفي وسائل الإعلام أوّل ما يراه المواطن ويقرؤه ويسمعه هو صورة وتصريحات الوثن، وأينما ذهبت في الميادين العامة فأصنام الوثن موجودة، وتقوم آلة التّوثين المحيطة به بإكمال الصّورة عبر تلبية رغباته الوثنية وتضليل الرّعية المخدوعة والمقهورة بصناعة صورة كاذبة عن استماتة الشّعب في حبّ الوثن البشري، وتحشد له الآلاف المؤلّفة من الجماهير من دور الرّعاية الاجتماعيّة والمؤسّسات العسكرية والشّركات الخاصّة والعامّة والموظّفين الحكوميين والطّلاب والمدرّسين وعلماء السّلاطين، ويظهرون هؤلاء على أنّهم مسبّحين حامدين لهذا الوثن الّذي إن ذهب ضاع الوطن والمواطن، ويبالغ هؤلاء في النّفاق للوثن بأنّه حالة عابرة للحدود ليس لها مثيل على وجه الأرض..

ولذلك نجد أن الوثن البشري يتبادل الأدوار مع رعاياه ومريديه ومنافقيه، وفي كل فترة يحاول ممارسة "الحرد السّياسي" بالتّلويح بزهده في الحكم والسّياسة وتفكيره بالاستقالة، فتبدأ آلة التّوثين بالنّدب والنّواح وتخرج له ما تستطيع من موظّفين وطلّاب ومنافقين حتّى يبقى ويستمر حتّى يستمر الشّعب والوطن اللذان يخنزلان مع النّظام السّياسي وحياة ومستقبل الشّعب بشخص الوثن البشري واستمراره بالحكم.

في محيط كل وثن جلاوزة ومريدون ومنتفعون ومقاتلون، ويتمّ انتقاؤهم بعناية، فغالبيتهم يتمّ اختيارهم من الجهلة وقليلي التّعليم ومن الانتهازيين والبسطاء وأصحاب الأجندات والباحثين عن فرص الانتفاع والاغتناء، وقد تبيّن أنّ القذّافي- على سبيل المثال- يعتمد على جيش من اللقطاء، فضلاً عن لقطاء السّياسة، وهؤلاء على اختلافهم، يعتبرون من أسوأ النّاس، فهم ذراع الوثن الّذي يقتل ويحرق ويعذّب، وهم من يساهم في صناعة الوثن أملاً بمنفعة أو خوفاً من مصيبة، وهؤلاء وإن كان بعضهم متديّن ظاهريّاً أو متعلّم أو رجل سياسة محنّك فهذا لا يعني أنّه منزّه من فكرة الوثنيّة السّياسيّة وعبادة الأشخاص، فهؤلاء هم من يسوّقون لعبادة وتنفيذ إرادة الوثن البشري، بل بعضهم يُحلّ السّجود لصور وتماثيل هؤلاء الأوثان، ويبررون تنفيذ إرادة الوثن السّياسي حتّى لو اختلفت مع إرادة الله، وحتّى لو أمر النّاس بتأليه الوثن السّياسي من دون الله، بل يعتبر بعضهم الخروج على الوثن خروجاً على الله، ولعلّه هنا يعتبر وثنه إلهه، وهنا قد يكون الوثن السّياسي بعمامة أو علمانيّاً أو طائفياً أو صاحب قضيّة سياسيّة أو خلاف ذلك.

كلب الشيخ شيخ... فالمحيطون بالوثن البشري يصابون بنفس مرض الوثن، ويصبح كل واحد منهم وثناً بشرياً صغيراً، فلا مكان لوثن غير الوثن الموجود، ومن كان طموحاً كانت المشنقة له بالمرصاد، ولذلك تجد وزراء الوثن أوثانا، وجنوده وضبّاطه أوثانا، وكل مدير لمؤسّسة تحت الوثن وثنا، وكل فرد من هؤلاء في بيته وثنا، وفي بعض الحالات الفريدة إن لم يجد أحد صغار الأوثان من يقدّسه يذهب في طريق النّظر في المرآة لتعظم ذاته أمامها، ويلجأ أحياناً هؤلاء للتّشبّه بالوثن في ملبسه ومشربه ومأكله وطريقة إلقاء خطاباته، حتّى ينتهي به المطاف فاقداً لعقله.

الدّول والمجتمعات والمؤسّسات التي تصاب بداء الوثنيّة السّياسية ينخرها الفساد وتسود فيها اللصوصية والسّلب والنّهب والسّقوط الأخلاقي والتّفكّك الاجتماعي، تنتشر فيها المافيات التابعة للوثن السّياسي ومن يحيطون به من أوثان صغار، فلكل واحد منهم عصابة تأتمر بأمره، وقد تتقاتل عصابات الأوثان الصّغار مع بعضها برضى الوثن الأكبر.

هذه المجتمعات تصبح هشّة ضعيفة غير قادرة على الدّفاع عن نفسها في وجه التّهديدات الخارجيّة، ولا تستأسد إلا على البسطاء من النّاس وعلى المعارضين السّياسيين، بينما تتقبّل أن تلعب دور المقاول الأمني والسّياسي للعدو الخارجي، وكل هذا في سبيل السّماح لها بالبقاء.

الدّور المميت الّذي تلعبه مؤسّسة الوثنيّة السّياسيّة لا يمكن إلا أن يوصل الشّعوب للثّورة على واقعها البالغ السّوء، وفي هذه الحالة تخرج الوثنيّة السّياسيّة أقذر وأبشع ما عندها، فتقوم الشّعوب الثّائرة بتمزيق صور الوثن ورموزه وكتبه وتدمّر تماثيله وتسبّه من على المنابر، فأول خطوة في تحطيم هذه المؤسسة يتمثّل في إساءة الوجه علانيةً أمام العامّة، ففرعون أفحم أمام العامّة، والوثنيّة السّياسيّة عاجزة عن النّقاش والحوار الموضوعي، ولذلك فهي تلجأ للإتهام بـ"بالمؤامرة" الخارجيّة للثّائرين على الوثن، وأنّهم يريدون تضليل النّاس وحرفهم عن طاعة الوثن، عبر المكر به وبنظامه، فالثّائرون مرتزقة وإرهابيون ومتآمرون وعصابات تريد تضليل النّاس عن الطّاعة والولاية للقائد، وتلجأ المؤسسّة الوثنيّة بعدها للقمع والعنف والتّغييب القسري، مثل تغييب وسائل الإعلام التي لا تنتمي لمؤسسة صناعة الوثن، وتهاجم بشراسة كل النّاطقين بلسان الثورة بالسر والعلن، وتستخدم الأسلوب الفرعوني في التّعامل مع من ينضمون للثّورة أو يتعاطفون معها، بل تتفوق عليها، فهي تقتل وتنهب وتحرق وتخرّب الممتلكات، وتسجن وتجلد وتطارد الثّائرين، وتقطّع أيديهم وأرجلهم وتعاقب أهلهم مثل فرعون، بل تزيد بتقطيع الرّؤوس والأعضاء التّناسليّة وسرقة الأعضاء من الذين تقتلهم، قد يكون هذا تطوير لعمليّة التّحنيط في عصر الفراعنة!!.

تفعل المؤسسة الوثنية كل ما تستطيع لتحطيم الثّورة ضدّها، ولكنّها تفشل في النّهاية أمام الشّعب الثّائر، لأنّ الثّورة على الوثنيّة السّياسية أوّل ما تفعله هو كسر حاجزي الخوف والجهل، وما دون ذلك من تضحيات وآلام ودماء يمكن تصوّرها واحتمالها، لأنّ تلك الشّعوب ذاقت طعم الحرّيّة، ومن يذوق طعم الحرّيّة ويضحّي بالغالي والنّفيس من أجلها لا يمكن أن يقبل العودة إلى قفصها مجدّداً، بل هو على استعداد للقتال بشراسة دفاعاً عنها.


--
 مع أطيب تحيات
 
             
 

ليست هناك تعليقات: